سورة النمل - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


هذه السورة مكية بلا خلاف. ومناسبة أول السورة لآخر ما قبلها واضحة، لأنه قال: {وما تنزلت به الشياطين}، وقبله: {وإنه لتنزيل رب العالمين}، وقال هنا: {طس تلك آيات القرآن}: أي الذي هو تنزيل رب العالمين. وأضاف الآيات إلى القرآن والكتاب المبين على سبيل التفخيم لها والتعظيم، لأن المضاف إلى العظيم عظيم. والكتاب المبين، إما اللوح، وإبانته أن قد خط فيه كل ما هو كائن فهو يبينه للناظرين، وإما السورة، وإما القرآن، وإبانتهما أنهما يبينان ما أودعاه من العلوم والحكم والشرائع. وأن إعجازهما ظاهر مكشوف ونكر. {وكتاب مبين}، ليبهم بالتنكير، فيكون أفخم له كقوله: {في مقعد صدق} وإذا أريد به القرآن، فعطفه من عطف إحدى الصفتين على الأخرى، لتغايرهما في المدلول عليه بالصفة، من حيث أن مدلول القرآن الاجتماع، ومدلول كتاب الكتابة. وقيل: القرآن والكتاب اسمان علمان على المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فحيث جاء بلفظ التعريف، فهو العلم، وحيث جاء بوصف النكرة، فهو الوصف، وقيل: هما يجريان مجرى العباس، وعباس فهو في الحالين اسم العلم. انتهى. وهذا خطأ، إذ لو كان حاله نزع منه علماً، ما جاز أن يوصف بالنكرة. ألا ترى إلى قوله: {وكتاب مبين}، {وقرآن مبين} وأنت لا تقول: مررت بعباس قائم، تريد به الوصف؟ وقرأ ابن أبي عبلة: وكتاب مبين، برفعهما، التقدير: وآيات كتاب، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فأعرب بإعرابه. وهنا تقدم القرآن على الكتاب، وفي الحجر عكسه، ولا يظهر فرق، وهذا كالمتعاطفين في نحو: ما جاء زيد وعمرو. فتارة يظهر ترجيح كقوله: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم} وتارة لا يظهر كقوله: {وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً} قال يحيى بن سلام: {هدى} إلى الجنة، {وبشرى} بالثواب. وقال الشعبي: هدى من الضلال، وبشرى بالجنة، وهدى وبشرى مقصوران، فاحتمل أن يكونا منصوبين على الحال، أي هادية ومبشرة. قيل: والعامل في الحال ما في تلك من معنى الإشارة، واحتمل أن يكونا مصدرين، واحتملا الرفع على إضمار مبتدأ. أي هي هدى وبشرى؛ أو على البدل من آيات؛ أو على خبر بعد خبر، أي جمعت بين كونها آيات وهدى وبشرى. ومعنى كونها هدى للمؤمنين: زيادة هداهم. قال تعالى: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون} وقيل: هدى لجميع الخلق، ويكون الهدى بمعنى الدلالة والإرشاد والتبيين، لا بمعنى تحصيل الهدى الذي هو مقابل الضلال. {وبشرى للمؤمنين} خاصة، وقيل: هدى للمؤمنين وبشرى للمؤمنين، وخصهم بالذكر لانتفاعهم به.
{وهم بالآخرة هم يوقنون}: تحتمل هذه الجملة أن تكون معطوفة على صلة {الذين}. ولما كان: {يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة} مما يتجدد ولا يستغرق الأزمان، جاءت الصلة فعلاً.
ولما كان الإيمان بالآخرة بما هو ثابت عندهم مستقر الديمومة، جاءت الجملة اسمية، وأكدت المسند إليه فيها بتكراره، فقيل: {هم يوقنون} وجاء خبر المبتدأ فعلاً ليدل على الديمومة، واحتمل أن تكون الجملة استئناف إخبار. قال الزمخشري: ويحتمل أن تتم الصلة عنده، أي عند قوله: {وهم}، قال: وتكون الجملة اعتراضية، كأنه قيل: وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون بالآخرة، وهو الوجه، ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرر فيها المبتدأ الذي هو هم، حتى صار معناها: وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق. انتهى. وقوله: وتكون الجملة اعتراضية، هو على غير اصطلاح النحاة في الجملة الاعتراضية من كونها لا تقع إلا بين شيئين متعلق بعضهما ببعض، كوقوعها بين صلة وموصولة، وبين جزأي إسناد، وبين شرط وجزائه، وبين نعت ومنعوت، وبين قسم ومقسم عليه، وهنا ليست واقعة بين شيئين مما ذكر وقوله الخ. حتى صار معناها فيه دسيسة الاعتزال. وقال ابن عطية: والزكاة هنا يحتمل أن تكون غير المفروضة؛ لأن السورة مكية قديمة، ويحتمل أن تكون المفروضة من غير تفسير. وقيل: الزكاة هنا بمعنى الطهارة من النقائص وملازمة مكارم الأخلاق. انتهى.
ولما ذكر تعالى المؤمنين الموقنين بالبعث، ذكر المنكرين والإشارة إلى قريش ومن جرى مجراهم في إنكار البعث. والأعمال، إما أن تكون أعمال الخير والتوحيد التي كان الواجب عليهم أن تكون أعمالهم، فعموا عنها وتردّدوا وتحيروا، وينسب هذا القول إلى الحسن البصري؛ أو أعمال الكفر والضلال، فيكون تعالى قد حبب ذلك إليهم وزينه بأن خلقه في نفوسهم، فرأوا تلك الأعمال القبيحة حسنة. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف أسند تزين أعمالهم إلى ذاته، وأسنده إلى الشيطان في قوله: {وزين لهم الشيطان أعمالهم} قلت: بين الإسنادين فرق، وذلك أن إسناده إلى الشيطان حقيقة، وإسناده إلى الله تعالى مجاز، وله طريقان في علم البيان: أحدهما: أن يكون من المجاز الذي يسمى الاستعارة. والثاني: أن يكون من المجاز المحكي.
فالطريق الأول: أنه لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق، وجعلوا إنعام الله عليهم بذلك وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم وبطرهم وإيثارهم الترفه ونفارهم عما يلزمهم فيه التكاليف الصعبة والمشاق المتعبة، فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم، وإليه إشارة الملائكة بقولهم: {ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر} والطريق الثاني: أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين فأسند إليه، لأنه المختار المحكي ببعض الملابسات. انتهى، وهو تأويل على طريق الاعتزال.
{أولئك}: إشارة إلى منكري البعث، و{سوء العذاب}: الظاهر أنه ليس مقيداً بالدنيا، بل لهم ذلك في الدنيا والآخرة. وقيل: المعنى في الدنيا، وفسر بما نالهم يوم بدر من القتل والأسر والنهب.
وقيل: ما ينالونه عند الموت وما بعده من عذاب القبر. وسوء العذاب: شدته وعظمه. والظاهر أن {الأخسرون} أفعل التفضيل، وذلك أن الكافر خسر الدنيا والآخرة، كما أخبر عنه تعالى، وهو في الآخرة أكثر خسراناً، إذ مآله إلى عقاب دائم. وأما في الدنيا، فإذا أصابه بلاء، فقد يزول عنه وينكشف. فكثرة الخسران وزيادته، إنما ذلك له في الآخرة، وقد ترتب الأكثرية، وإن كان المسند إليه واحداً بالنسبة إلى الزمان والمكان، أو الهيئة، أو غير ذلك مما يقبل الزيادة. وقال الكرماني: أفعل هنا للمبالغة لا للشركة، كأنه يقول: ليس للمؤمن خسران ألبتة حتى يشركه فيه الكافر ويزيد عليه، وقد بينا كيفية الاشتراك بالنسبة إلى الدنيا والآخرة. وقال ابن عطية: والأخسرون جمع أخسر، لأن أفعل صفة لا يجمع إلا أن يضاف، فتقوى رتبته في الأسماء، وفي هذا نظر. انتهى. ولا نظر في كونه يجمع جمع سلامة وجمع تكسير. إذا كان بأل، بل لا يجوز فيه إلا ذلك، إذا كان قبله ما يطابقه في الجمعية فيقول: الزيدون هم الأفضلون، والأفاضل، والهندات هنّ الفضليات والفضل. وأما قوله: لا يجمع إلا أن يضاف، فلا يتعين إذ ذاك جمعه، بل إذا أضيف إلى نكرة فلا يجوز جمعه، وإن أضيف إلى معرفة جاز فيه الجمع والإفراد على ما قرر ذلك في كتب النحو.
ولما تقدم: {تلك آيات القرآن}، خاطب نبيه بقوله: {وإنك}، أي هذا القرآن الذي تلقيته هو من عند الله تعالى، وهو الحكيم العليم، لا كما ادعاه المشركون من أنه إفك وأساطير وكهانة وشعر، وغير ذلك من تقوّلاتهم. وبنى الفعل للمفعول، وحذف الفاعل، وهو جبريل عليه السلام، للدلالة عليه في قوله: {نزل به الروح الأمين} ولقي يتعدى إلى واحد، والتضعيف فيه للتعدية، فيعدى به إلى اثنين، وكأنه كان غائباً عنه فلقيه فتلقاه. قال ابن عطية: ومعناه يعطي، كما قال: {وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} وقال الحسن: المعنى وإنك لتقبل القرآن. وقيل: معناه تلقن. والحكمة: العلم بالأمور العملية، والعلم أعم منه، لأنه يكون عملياً ونظرياً، وكمال العلم: تعلقه بكل المعلومات وبقاؤه مصوناً عن كل التغيرات، ولا يكون ذلك إلا لله تعالى. وهذه الآية تمهيد لما يخبر به من المغيبات وبيان قصص الأمم الخالية، مما يدل على تلقيه ذلك من جهة الله، وإعلامه بلطيف حكمته دقيق علمه تعالى. قيل: وانتصب {إذ} باذكر مضمرة، أو بعليم؛ وليس انتصابه بعليم واضحاً، إذ يصير الوصف مقيداً بالمعمول.
وقد تقدم طرف من قصة موسى عليه السلام في رحلته بأهله من مدين: في سورة طه، وظاهر أهله جمع لقوله: {سآتيكم} و{تصطلون}، وروي أنه لم يكن معه غير امرأته. وقيل: كانت ولدت له، وهو عند شعيب، ولداً، فكان مع أمه. فإن صح هذا النقل، كان من باب خطاب الجمع على سبيل الإكرام والتعظيم.
وكان الطريق قد اشتبه عليه، والوقت بارد، والسير في ليل، فتشوقت نفسه، إذ رأى النار إلى زوال ما لحق من إضلال الطريق وشدة البرد فقال: {سآتيكم منها بخبر}: أي من موقدها بخبر يدل على الطريق، {أو آتيكم بشهاب قبس}: أي إن لم يكن هناك من يخبر، فإني أستصحب ما تدفؤون به منها. وهذا الترديد بأو ظاهر، لأنه كان مطلوبه أولاً أن يلقي على النار من يخبره بالطريق، فإنه مسافر ليس بمقيم. فإن لم يكن أحد، فهو مقيم، فيحتاجون لدفع ضرر البرد، وهو أن يأتيهم بما يصطلون، فليس محتاجاً للشيئين معاً، بل لأحدهما الخبر إن وجد من يخبره فيرحل، أو الاصطلاء إن لم يجد وأقام. فمقصوده إما هداية الطريق، وإما اقتباس النار، وهو معنى قوله: {لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى} وجاء هنا: {سآتيكم منها بخبر}، وهو خبر، وفي طه: {لعلي آتيكم منها بقبس} وفي القصص: {لعلي آتيكم منها بخبر} وهو ترج، ومعنى الترجي مخالف لمعنى الخبر. ولكن الرجاء إذا قوي، جاز للراجي أن يخبر بذلك، وإن كانت الخيبة يجوز أن تقع. وأتى بسين الاستقبال، إما لأن المسافة كانت بعيدة، وإما لأنه قد يمكن أن تبطئ لما قدر أنه قد يعرض له ما يبطئه. والشهاب: الشعلة، والقبس: النار المقبوسة، فعل بمعنى مفعول، وهو القطعة من النار في عود أو غيره، وتقدم ذلك في طه. وقرأ الكوفيون: بشهاب منوناً، فقبس بدل أو صفة، لأنه بمعنى المقبوس. وقرأ باقي السبعة: بالإضافة، وهي قراءة الحسن. قال الزمخشري: أضاف الشهاب إلى القبس، لأنه يكون قبساً وغير قبس، واتبع في ذلك أبا الحسن. قال أبو الحسن: الإضافة أجود وأكثر في القراءة، كما تقول: دار آجر، وسوار ذهب. والظاهر أن الضمير في {جاءها} عائد على النار، وقيل: على الشجرة، وكان قد رآها في شجرة سمر خضراء. وقيل: عليق، وهي لا تحرقها، كلما قرب منها بعدت. و{نودي} المفعول الذي لم يسم فاعله، الظاهر أنه ضمير عائد على موسى عليه السلام. و{أن} على هذا يجوز أن تكون مفسرة لوجود شرط المفسرة فيها، ويجوز أن تكون مصدرية. أما الثنائية التي تنصب المضارع، وبورك صلة لها، والأصل حرف الجر، أي بأن بورك، وبورك خبر. وأما المخففة من الثقيلة فأصلها حرف الجر. وقال الزمخشري: فإن قلت: هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، وتقديره بأنه بورك، والضمير ضمير الشأن والقصة؟ قلت: لا، لأنه لا بد من قد. فإن قلت: فعلى إضمارها؟ قلت: لا يصح، لأنها علامة ولا تحذف. انتهى. ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، وبورك فعل دعاء، كما تقول: بارك الله فيك. وإذا كان دعاء، لم يجز دخول قد عليه، فيكون كقوله تعالى: {والخامسة أن غضب الله عليها} في قراءة من جعله فعلاً ماضياً، وكقول العرب: إما أن جزاك الله خيراً، وإما أن يغفر الله لك، وكان الزمخشري بنى ذلك على {أن بورك} خبر لا دعاء، فلذلك لم يجز أن تكون مخففة من الثقيلة، وأجاز الزجاج أن تكون {أن بورك} في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله، وهو على إسقاط الخافض، أي نودي بأن بورك، كما تقول: نودي بالرخص. ويجوز أن تكون أن الثنائية، أو المخففة من الثقيلة، فيكون بورك دعاء. وقيل: المفعول الذي لم يسم فاعله هو ضمير النداء، أي نودي هو، أي النداء، ثم فسر بما بعده. وبورك معناه: قدّس وطهر وزيد خيره، ويقال: باركك الله، وبارك فيك، وبارك عليك، وبارك لك. وقال الشاعر:
فبوركت مولوداً وبوركت ناشئاً *** وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
وقال آخر:
بورك الميت الغريب كما *** بورك نبع الرمان والزيتون
وقال عبد الله بن الزبير:
فبورك في بنيك وفي بنيهم *** إذا ذكروا ونحن لك الفداء
و {من}: المشهور أنها لمن يعلم، فقال ابن عباس، وابن جبير، والحسن وغيرهم: أراد تعالى بمن في النار ذاته، وعبر بعضهم بعبارات شنيعة مردودة بالنسبة إلى الله تعالى. وإذا ثبت ذلك عن ابن عباس ومن ذكر أول على حذف، أي بورك من قدرته وسلطانه في النار. وقيل لموسى عليه السلام: أي بورك من في المكان أو الجهة التي لاح له فيه النار. وقال السدّي: من للملائكة الموكلين بها. وقيل: من تقع هنا على ما لا يعقل. فقال ابن عباس: أراد النور. وقيل: الشجرة التي تتقد فيها النار. وقيل: والظاهر في {ومن حولها} أنه لمن يعلم تفسير {يا موسى}، وفسر بالملائكة، ويدل عليه قراءة أبي؛ فيما نقل أبو عمرو الداني: وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة؛ ومن حولها من الملائكة، وتحمل هذه القراءة على التفسير، لأنها مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه، وفسر أيضاً بموسى والملائكة عليهم السلام معاً. وقيل: تكون لما لا يعقل، وفسر بالأمكنة التي حول النار؛ وجدير أن يبارك من فيها ومن حواليها إذا حدث أمر عظيم، وهو تكليم الله لموسى عليه السلام؛ وتنبيئه وبدؤه بالنداء بالبركة تبشير لموسى وتأنيس له ومقدمة لمناجاته.
والظاهر أن قوله: {وسبحان الله رب العالمين} داخل تحت قوله: {نودي}. أي لما نودي ببركة من ذكر، نودي أيضاً بما يدل على التنزيه والبراءة من صفات المحدثين مما عسى أن يخطر ببال، ولا سيما إن حمل من في النار على تفسير ابن عباس أن من أريد به الله تعالى، فإن ذلك دال على التحيز، فأتى بما يقتضي التنزيه. وقال السدّي: هو من كلام موسى، لما سمع النداء قال: {وسبحان الله رب العالمين} تنزيهاً لله تعالى عن سمات المحدثين. وقال ابن شجرة: هو من كلام الله، ومعناه: وبورك من سبح الله، وهذا بعيد من دلالة اللفظ.
وقيل: {وسبحان الله رب العالمين} خطاب لمحمد عليه لصلاة والسلام، وهو اعتراض بين الكلامين، والمقصود به التنزيه.
ولما آنسه تعالى، ناداه وأقبل عليه فقال: {يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم}. والظاهر أن الضمير في إنه ضمير الشأن، وأنا الله: جملة في موضع الخبر، والعزيز الحكيم: صفتان، وأجاز الزمخشري أن يكون الضمير في إنه راجعاً إلى ما دل عليه ما قبله، يعني: إن مكلمك أنا، والله بيان لأنا، والعزيز الحكيم صفتان للبيان. انتهى. وإذا حذف الفاعل وبني الفعل للمفعول، فلا يجوز أن يعود على الضمير على ذلك المحذوف، إذ قد غير الفعل عن بنائه له، وعزم على أن لا يكون محدثاً عنه. فعود الضمير إليه مما ينافي ذلك، إذ يصير مقصوداً معتنى به، وهذا النداء والإقبال والمخاطبة تمهيد لما أراد الله تعالى أن يظهره على يده من المعجز، أي أنا القوي القادر على ما يبعد في الأوهام، الفاعل ما أفعله بالحكمة. وقال الزمخشري: فإن قلت: علام عطف قوله: {وألق عصاك}؟ قلت: على بورك، لأن المعنى: {نودي أن بورك من في النار}. وقيل له: ألق عصاك، والدليل على ذلك قوله: {وأن ألق عصاك} بعد قوله: {أن يا موسى إني أنا الله} على تكرير حرف التفسير، كما تقول: كتبت إليه أن حج واعتمر، وإن شئت أن حج وأن اعتمر. انتهى. وقوله: {إنه}، معطوف على بورك مناف لتقديره. وقيل له: ألق عصاك، لأن هذه جملة معطوفة على بورك، وليس جزؤها الذي هو. وقيل: معطوفاً على بورك، وإنما احتيج إلى تقدير. وقيل له: ألق عصاك، لتكون الجملة خبرية مناسبة للجملة الخبرية التي عطفت عليها، كأنه يرى في العطف تناسب المتعاطفين، والصحيح أنه لا يشترط ذلك، بل قوله: {وألق عصاك} معطوف على قوله: {إنه أنا العزيز الحكيم}، عطف جملة الأمر على جملة الخبر. وقد أجاز سيبويه: جاء زيد ومن عمرو.
{فلما رآها تهتز}: ثم محذوف تقديره: فألقاها من يده. وقرأ الحسن، والزهري، وعمرو بن عبيد: جأن، بهمزة مكان الألف، كأنه فر من التقاء الساكنين؛ وقد تقدم الكلام في نحو ذلك في قوله: ولا الضألين، بالهمز في قراءة عمرو بن عبيد. وجاء: {فإذا هي حية} {فإذا هي ثعبان مبين} وهذا إخبار من الله بانقلابها وتغيير أوصافها وإعراضها، وليس إعداماً لذاتها وخلقها لحية وثعبان، بل ذلك من تغيير الصفات لا تغيير الذات. وهنا شبهها حالة اهتزازها بالجان، فقيل: وهو صغار الحيات، شبهها بها في سرعة اضطرابها وحركتها، مع عظم جثتها. ولما رأى موسى هذا الأمر الهائل، {ولى مدبراً ولم يعقب}. قال مجاهد: ولم يرجع. وقال السدّي: لم يمكث. وقال قتادة: ولم يلتفت، يقال: عقب الرجل: توجه إلى شيء كان ولى عنه، كأنه انصرف على عقبيه، ومنه: عقب المقاتل، إذا كر بعد الفرار.
قال الشاعر:
فما عقبوا إذ قيل هل من معقب *** ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا
ولحقه ما لحق طبع البشرية إذا رأى الإنسان أمراً هائلاً جداً، وهو رؤية انقلاب العصا حية تسعى، ولم يتقدمه في ذلك تطمين إليه عند رؤيتها. قال الزمخشري: وإنما رغب لظنه أن ذلك لأمرٍ أريد به، ويدل عليه: {إني لا يخاف لديّ المرسلون}. انتهى. وقال ابن عطية: وناداه الله تعالى مؤنساً ومقوياً على الأمر: {يا موسى لا تخف}، فإن رسلي الذين اصطفيتم للنبوة لا يخافون غيري. فأخذ موسى عليه السلام الحية، فرجعت عصا، ثم صارت له عادة. انتهى. وقيل: المعنى لا يخاف المرسلون في الموضع الذي يوحى إليهم فيه، وهم أخوف الناس من الله. وقيل: إذا أمرتهم بإظهار معجز، فينبغي أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك، فالمرسل يخاف الله لا محالة. انتهى. والأظهر أن قوله: {إلا من ظلم}، استثناء منقطع، والمعنى: لكن من ظلم غيرهم، قاله الفراء وجماعة، إذ الأنبياء معصومون من وقوع الظلم الواقع من غيرهم. وعن الفراء: إنه استثناء متصل من جمل محذوفة، والتقدير: وإنما يخاف غيرهم إلا من ظلم. ورده النحاس وقال: الاستثناء من محذوف محال، لو جاز هذا لجاز أن لا يضرب القوم إلا زيداً، بمعنى: وإنما أضرب غيرهم إلا زيداً، وهذا ضد البيان والمجيء بما لا يعرف معناه. انتهى. وقالت فرقة: إلا بمعنى الواو، والتقدير: ولا من ظلم، وهذا ليس بشيء، لأن معنى إلا مباين لمعنى الواو مباينة كثيرة، إذ الواو للإدخال، وإلا للإخراج، فلا يمكن وقوع أحدهما موقع الآخر. وروي عن الحسن، ومقاتل، وابن جريج، والضحاك، ما يقتضي أنه استثناء متصل.
قال ابن عطية: وأجمع العلماء على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي هي رذائل، واختلف فيما عداها، فعسى أن يشير الحسن وابن جريج إلى ما عدا ذلك. انتهى. وقال الزمخشري: وإلا بمعنى لكن، لأنه لما أطلق نفي الخوف عن المرسل كان ذلك مظنة لطرو الشبهة فاستدرك ذلك، والمعنى: ولكن من ظلم منهم، أي فرطت منهم صغيرة مما لا يجوز على الأنبياء، كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف، ومن موسى، بوكزة القبطي. ويوشك أن يقصد بهذا التعريض ما وجد من موسى، وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها، وسماه ظلماً؛ كما قال موسى: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي} انتهى. وقرأ أبو جعفر، وزيد بن أسلم: ألا من ظلم، بفتح الهمزة وتخفيف اللام، حرف استفتاح. ومن: شرطية. والحسن: حسن التوبة، والسوء: الظلم الذي ارتكبه. وقرأ الجمهور: حسناً، بضم الحاء وإسكان السين منوناً. وقرأ محمد بن عيسى الأصبهاني: كذلك، إلا أنه لم ينون، جعله فعلى، فامتنع الصرف؛ وابن مقسم: بضم الحاء والسين منوناً.
ومجاهد، وأبو حيوة، وابن أبي ليلى، والأعمش، وأبو عمرو في رواية الجعفي، وأبو زيد، وعصمة، وعبد الوارث، وهارون، وعياش: بفتحهما منوناً.
{وأدخل}: أمر بما يترتب عليه من ظهور المعجز العظيم، لما أظهر له معجزاً في غيره، وهو العصا، أظهر له معجزاً في نفسه، وهو تلألؤ يده كأنها قطعة نور، إذا فعل ما أمر به. وجواب الأمر الظاهر أنه تخرج، لأن خروجها مترتب على إدخالها. وقيل: في الكلام حذف تقديره: وأدخل يدك في جيبك تدخل، وأخرجها تخرج، فحذف من الأول ما أثبت مقابله في الثاني، ومن الثاني ما أثبت مقابله في الأول. قال قتادة: {في جيبك}: قميصك، كانت له مدرعة من صوف لا كمين لها. وقال ابن عباس، ومجاهد: كان كمها إلى بعض يده. وقال السدي: في جيبك: أي تحت إبطك. والظاهر أن قوله: {في تسع آيات إلى فرعون} متعلق بمحذوف تقديره: اذهب بهاتين الآيتين: {في تسع آيات إلى فرعون}، ويدل عليه قوله بعد: {فلما جاءتهم آياتنا مبصرة}، وهذا الحذف مثل قوله:
أتوا ناري فقلت منون أنتم *** فقالوا الجن قلت عموا ظلاماً
وقلت إلى الطعام فقال منهم *** فريق يحسد الإنس الطعاما
التقدير: هلموا إلى الطعام. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى: وألق عصاك، وأدخل يدك، في {تسع آيات}، أي في جملة تسع آيات. ولقائل أن يقول: كانت الآيات إحدى عشرة، ثنتان منها: اليد والعصا، والتسع: الفلق، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمسة، والجذب في بواديهم، والنقصان من مزارعهم. انتهى. فعلى الأول يكون العصا واليد داخلتين في التسع، وعلى الثاني تكون في بمعنى مع، أي مع تسع آيات. وقال ابن عطية: في تسع آيات متصل بقوله: ألق، وأدخل، وفيه اقتضاب وحذف تقديره: تمهد ذلك وتيسر لك في جملة تسع آيات وهي: العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمس، والحجر؛ وفي هذين الأخيرين اختلاف، والمعنى: يجيء بهنّ إلى فرعون وقومه. وقال الزجاج: في تسع آيات، أي من تسع آيات، كما تقول: خذ {لي} عشراً من الإبل فيها فحلان، أي منها إلى فرعون، أي مرسلاً إلى فرعون. انتهى. وانتصب {مبصرة} على الحال، أي بينة واضحة، ونسب الإبصار إليها على سبيل المجاز، لما كان يبصر بها جعلت مبصرة، أو لما كان معها الإبصار والوضوح. وقيل: لجعلهم بصراء، من قول: أبصرته المتعدية بهمزة النقل من بصر. وقيل: فاعل بمعنى مفعول، كماء دافق. وقرأ قتادة، وعلي بن الحسين: مبصرة، بفتح الميم والصاد، وهو مصدر، كما تقول: الولد مجبنة، وأقيم مقام الاسم، وانتصب أيضاً على الحال، وكثر هذا الوزن في صفات الأماكن نحو: أرض مسبعة، ومكان مضية.
قال الزمخشري: أي مكاناً يكثر فيه التبصر. انتهى. والأبلغ في: {واستيقنتها} أن تكون الواو واو الحال، أي كفروا بها وأنكروها في الظاهر، وقد استيقنت أنفسهم في الباطن أنها آيات من عند الله، وكابروا وسموها سحراً. وقال تعالى، حكاية عن موسى في محاورته لفرعون: {قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر} {ظلماً}: مجاوزة الحد، {وعلواً}: ارتفاعاً وتكبراً عن الإيمان، وانتصبا على أنهما مصدران في موضع الحال، أي ظالمين عالين؛ أو مفعولان من أجلهما، أي لظلمهم وعلوهم، أي الحامل لهم على الإنكار والجحود، مع استيقان أنها آيات من عند الله هو الظلم والعلو. واستفعل هنا بمعنى تفعل نحو: استكبر في معنى تكبر. وقرأ عبد الله، وابن وثاب، والأعمش، وطلحة، وأبان بن تغلب، وعلياً: بقلب الواو ياء، وكسر العين واللام، وأصله فعول، لكنهم كسروا العين اتباعاً؛ وروي ضمها عن ابن وثاب والأعمش وطلحة، وتقدم الخلاف في كفر العناد، هل يجوز أن يقع أم لا؟ والعاقبة: ما آل إليه قوم فرعون من سوء المنقلب، وما أعد لهم في الآخرة أشد، وفي هذا تمثيل لكفار قريش، إذ كانوا مفسدين مستعلين، وتحذير لهم أن يحل بهم مثل ما حل بمن كان قبلهم.


هذا ابتداء قصص وأخبار بمغيبات وعبر ونكر. {علماً} لأنه طائفة من العلم. وقال قتادة: علماً: فهماً. وقال مقاتل: علماً بالقضاء. وقال ابن عطاء: علماً بالله تعالى. وقال الزمخشري: أو علماً سنياً عزيزاً. {وقالا} قال: فإن قلت: أليس هذا موضع الفاء دون الواو، كقولك: أعطيته فشكر ومنعته فصبر؟ قلت: بلى، ولكن عطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيء من مواجبه، فأضمر ذلك، ثم عطف عليه التحميد، كأنه قال: ولقد آتيناهما علماً، فعملا به وعلماه، وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة، {وقالا الحمد لله}، والكثير المفضل عليه من لم يؤت علماً، أو من يؤت مثل علمهما، وفي الآية دليل على شرف العلم. انتهى. والموروث: الملك والنبوّة، بمعنى: صار ذلك إليه بعد موت أبيه فسمي ميراثاً تجوزاً، كما قيل: العلماء ورثة الأنبياء. وحقيقة الميراث في المال والأنبياء لا نورث مالاً، وكان لداود تسعة عشر ولداً ذكراً، فنبئ سليمان من بينهم وملك. وقيل: ولاه على بين إسرائيل في حياته من بين سائر أولاده، فكانت الولاية في معنى الوراثة. وقال الحسن: ورث المال لأن النبوة عطية مبتدأة لا تورث. وقيل: الملك والسياسة. وقيل: النبوة فقط، والأظهر القول الأول، ويؤيده قوله: {علمنا منطق الطير}، فهذا يدل على النبوة؛ {وأوتينا من كل شيء} يدل على الملك، وكان هذا شرحاً للميراث. وقوله: {إن هذا لهو الفضل المبين} يقوي ذلك، ولا يناسب شيء من هذا وراثة المال.
وقوله: {يا أيها الناس} تشهير لنعمة الله، وتنويه بها واعتراف بمكانها، ودعاء الناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير، وغير ذلك مما أوتيه من عظائم الأمور. و{منطق الطير}: استعارة لما يسمع منها من الأصوات، وهو حقيقة في بني آدم، لما كان سليمان يفهم منه ما يفهم من كلام بني آدم، كما يفهم بعض الطير من بعض، أطلق عليه منطق. وقيل: كانت الطير تكلمه معجزة له، كقصة الهدهد، والظاهر أنه علم منطق الطير وعموم الطير. وقيل: علم منطق الحيوان. قيل: والنبات، حتى كان يمر على الشجرة فتذكر له منافعها ومضارها، وإنما نص على الطير، لأنه كان جنداً من جنوده، يحتاج إليه في التظليل من الشمس، وفي البعث في الأمور. وقال قتادة: والشعبي: وكذلك كانت هذه النملة القائلة ذات جناحين. وأورد المفسرون مما ذكروا: أن سليمان عليه السلام أخبر عن كثير من الطير بأنواع من الكلام، تقديس لله تعالى وعظات، وعبر ما الله أعلم بصحته.
{وأوتينا من كل شيء}: ظاهره العموم، والمراد الخصوص، أي من كل شيء يصلح لنا ونتمناه، وأريد به كثرة ما أوتي، فكأنه مستغرق لجميع الأشياء.
كما تقول: فلان يقصده كل أحد، يريد كثرة قصاده، وهذا كقوله تعالى في قصة بلقيس: {وأوتيت من كل شيء} وبنى علمنا وأوتينا للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، وهو الله تعالى. وكانا مسندين لنون العظمة لا لتاء المتكلم، لأنه إما إن أراد نفسه وأباه، أو لما كان ملكاً مطاعاً خاطب أهل طاعته ومملكته بحاله التي هو عليها، لا على سبيل التعاظم والتكبر.
{إن هذا لهو الفضل المبين}: إقرار بالنعمة وشكر لها ومحمدة.
روي أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة خمسة وعشرون للجن، ومثلها للإنس، ومثلها للطير، ومثلها للوحش، وألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة منكوحة، وسبعمائة سرية، وقد نسجت له الجن بساطاً من ذهب وإبريسم فرسخاً في فرسخ، ومنبره في وسطه من ذهب، فيصعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، تقعد الأنبياء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، وترفع ريح الصبا البساط، فتسير به مسيرة شهر، وتفصيل هذه الأشياء يحتاج إلى صحة نقل، وكان ملكه عظيماً، ملأ الأرض، وانقاد له أهل المعمور منها. وتقدم لنا أنه ملك الأرض بأسرها أربعة: مؤمنان: سليمان وذو القرنين، وكافران: بختنصر ونمروذ. وحشر الجنود يقتضي سفراً وفسر الجنود أنهم الجن والإنس والطير، وذكر المفسرون الوحش رابعاً.
{فهم يوزعون}: يحشر أولهم على آخرهم، أي يوقف متقدمو العسكر حتى يأتي آخرهم فيجتمعون، لا يتخلف منهم أحد وذلك للكثرة العظيمة، أو يكفون عن المسير حتى يجتمعوا. وقيل: يجتمعون من كل جهة. وقيل: يساقون. وقيل: يدفعون. وقيل: يحبسون. كانت الجيوش تسير معه إذا سار، وينزل إذا نزل. {حتى إذا أتوا}: هذه غاية لشيء مقدر، أي وساروا حتى إذا أتوا، أو يضمن يوزعون معنى فعل يقتضي أن تكون حتى غاية له، أي فهم يسيرون مكنوفاً بعضهم من مفارقة بعض. وعدى أتوا بعلى، إما لأن إتيانهم كان من فوق، وإما أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم: أتى على الشيء، إذا أتى على آخره وأنفذه، كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي، لأنهم ما دامت الريح تحملهم لا يخاف حطمهم، قاله الزمخشري.
وقال ابن عطية: والظاهر أن سليمان وجنوده كانوا مشاة في الأرض، ولذلك يتهيأ حطم النمل بنزولهم في وادي النمل. ويحتمل أنهم كانوا في الكرسي المحمول بالريح، فأحست النمل بنزولهم في وادي النمل، ووادي النمل قيل بالشام. وقيل: بأقصى اليمن، وهو معروف عند العرب مذكور في أشعارها. وقال كعب: وادي السدر من الطائف. والظاهر صدور القول من النملة، وفهم سليمان كلامها، كما فهم منطق الطير. قال مقاتل: من ثلاثة أميال. وقال الضحاك بلغته: الريح كلامها. وقال ابن بحر: نطقت بالصوت معجزة لسليمان، ككلام الضب والذراع للرسول.
وقيل: فهمه إلهاماً من الله، كما فهمه جنس النمل، لا أنه سمع قولاً. وقال الكلبي: أخبره ملك بذلك. قال الشاعر:
لو كنت أوتيت كلام الحكل *** علم سليمان كلام النمل
والحكل: ما لا يسمع صوته. وذكروا اختلافاً في صغر النملة وكبرها، وفي اسمها العلم ما لفظه. وليت شعري، من الذي وضع لها لفظاً يخصها، أبنو آدم أم النمل؟ وقالوا: كانت نملة عرجاء، ولحوق التاء في قالت لا يدل على أن النملة مؤنث، بل يصح أن يقال في المذكر: قالت نملة، لأن نملة، وإن كان بالتاء، هو مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث. وما كان كذلك، كالنملة والقملة، مما بينه في الجمع وبين واحدة من الحيوان تاء التأنيث، فإنه يخبر عنه إخبار المؤنث، ولا يدل كونه يخبر عنه إخبار المؤنث على أنه ذكر أو أنثى، لأن التاء دخلت فيه للفرق، لا دالة على التأنيث الحقيقي، بل دالة على الواحد من هذا الجنس.
وقال الزمخشري، وعن قتادة: أنه دخل الكوفة، فالتف عليه الناس فقال: سلوا عما شئتم. وكان أبو حنيقة حاضراً، وهو غلام حدث، فقال: سلوه عن نملة سليمان، أكانت ذكراً أم أنثى: فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى. فقيل له: من أين عرفت؟ فقال: من كتاب الله، وهو قوله: {قالت نملة}، ولو كان ذكراً لقال قال نملة. قال الزمخشري: وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى، فيميز بينهما بعلامة، نحو قولهم: حمامة ذكر وحمامة أنثى، وهو وهي. انتهى. وكان قتادة بن دعامة السدوسي بصيراً بالعربية، وكونه أفحم، يدل على معرفته باللسان، إذ علم أن النملة يخبر عنها إخبار المؤنث، وإن كانت تنطلق على الأنثى والذكر، إذ هو مما لا يتميز فيه أحد هذين، فتذكيره وتأنيثه لا يعلم ذلك من إلحاق العلامة للفعل فتوقف، إذ لا يعلم ذلك إلا بوحي من الله. وأما استنباط تأنيثه من كتاب الله من قوله: {قالت نملة}، ولو كان ذكراً لقال: قال نملة، وكلام النحاة على خلافه، وأنه لا يخبر عنه إلا إخبار المؤنث، سواء كان ذكراً أم أنثى. وأما تشبيه الزمخشري النملة بالحمامة والشاة، فبينهما قدر مشترك، وهو إطلاقهما على الذكر والمؤنث، وبينهما فرق، وهو أن الحمامة والشاة يتميز فيهما المذكر من المؤنث، فيمكن أن تقول: حمامة ذكر وحمامة أنثى، فتميز بالصفة. وأما تمييزه بهو وهي، فإنه لا يجوز. لا تقول: هو الحمامة، ولا هو الشاة؛ وأما النملة والقملة فلا يتيمز فيه المذكر من المؤنث، فلا يجوز فيه في الإخبار إلا التأنيث، وحكمه حكم المؤنث بالتاء من الحيوان العاقل نحو: المرأة، أو غير العاقل كالدابة، إلا أن وقع فصل بين الفعل وبين ما أسند إليه من ذلك، فيجوز أن تلحق العلامة الفعل، ويجوز أن لا تلحق، على ما قرر ذلك في باب الإخبار عن المؤنث في علم العربية.
وقرأ الحسن، وطلحة، ومعتمر بن سليمان، وأبو سليمان التيمي: نملة، بضم الميم كسمرة، وكذلك النمل، كالرجلة والرجل لعتان. وعن سليمان التيمي: نمل ونمل بضم النون والميم، وجاء الخطاب بالأمر، كخطاب من يعقل في قوله: {ادخلوا} وما بعده، لأنها أمرت النمل كأمر من يعقل، وصدر من النمل الامتثال لأمرها. وقرأ شهر بن حوشب: مسكنكم، على الإفراد. وعن أبيّ: أدخلن مساكنكن لا يحطمنكم: مخففة النون التي قبل الكاف. وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وقتادة، وعيسى بن عمر الهمداني، الكوفي، ونوح القاضي: بضم الياء وفتح الحاء وشد الطاء والنون، مضارع حطم مشدداً. وعن الحسن: بفتح الياء وإسكان الحاء وشد الطاء، وعنه كذلك مع كسر الحاء، وأصله: لا يحتطمنكم من الاحتطام. وقرأ ابن أبي إسحاق، وطلحة، ويعقوب، وأبو عمرو في رواية عبيد: كقراءة الجمهور، إلا أنهم سكنوا نون التوكيد. وقرأ الأعمش: بحذف النون وجزم الميم، والظاهر أن قوله: {لا يحطمنكم}، بالنون خفيفة أو شديدة، نهي مستأنف، وهو من باب: لا أرينك ههنا، نهت غير النمل، والمراد النمل، أي لا تظهروا بأرض الوادي فيحطمكم، ولا تكن هنا فأراك. وقال الزمخشري: فإن قلت: لا يحطمنكم ما هو؟ قلت: يحتمل أن يكون جواباً للأمر، وأن يكون هنا بدلاً من الأمر، والذي جوز أن يكون بدلاً منه، لأنه في معنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم على طريقة لا أرينك ههنا، أرادت لا يحطمنكم جنود سليمان، فجاءت بما هو أبلغ ونحوه: عجبت من نفسي ومن إشفاقها. انتهى. وأما تخريجه على أنه أمر، فلا يكون ذلك إلا على قراءة الأعمش، إذ هو مجزوم، مع أنه يحتمل أن يكون استئناف نفي، وأما مع وجود نون التوكيد، فإنه لا يجوز ذلك إلا إن كان في الشعر. وإذا لم يجز ذلك في جواب الشرط إلا في الشعر، فأحرى أن لا يجوز في جواب الأمر إلا في الشعر. وكونه جواب الأمر متنازع فيه على ما قرر في النحو، ومثال مجيء نون التوكيد في جواب الشرط، قول الشاعر:
نبتم نبات الخيزرانة في الثرى *** حديثاً متى يأتك الخير ينفعا
وقول الآخر:
مهما تشا منه فزارة يعطه *** ومهما تشا منه فزارة يمنعا
قال سيبويه: وذلك قليل في الشعر، شبهوه بالنفي حيث كان مجزوماً غير واجب. انتهى. وقد تنبه أبو البقاء لشيء من هذا قال: وقيل هو جواب الأمر، وهو ضعيف، لأن جواب الشرط لا يؤكد بالنون في الاختيار. وأما تخريجه على البدل فلا يجوز، لأن مدلول {لا يحطمنكم} مخالف لمدلول {ادخلوا}. وأما قوله: لأنه في معنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم، فهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب، والبدل من صفة الألفاظ.
نعم لو كان اللفظ القرآني لا تكونوا حيث أنتم لا يحطمنكم لتخيل فيه البدل، لأن الأمر بدخول المساكن نهى عن كونهم في ظاهر الأرض. وأما قوله: أنه أراد لا يحطمنكم جنود سليمان إلى آخر، فيسوغ زيادة الأسماء، وهو لا يجوز، بل الظاهر إسناد الحطم إليه وإلى جنوده، وهو على حذف مضاف، أي خيل سليمان وجنوده، أو نحو ذلك مما يصح تقديره. {وهم لا يشعرون}: جملة حالية، أي إن وقع حطم، فليس ذلك بتعمد منهم، إنما يقع وهم لا يعلمون بحطمنا، كقوله: {فتصيبكم منهم معرّة بغير علم} وهذا التفات حسن، أي من عدل سليمان وأتباعه ورحمته ورفقه أن لا يحطم نملة فما فوقها إلا بأن لا يكون لهم شعور بذلك.
وما أحسن ما أتت به هذه النملة في قولها وأغربه وأفصحه وأجمعه للمعاني، أدركت فخامة ملك سليمان، فنادت وأمرت وأنذرت. وذكروا أنه جزى بينها وبين سليمان محاورات، وأهدت له نبقة، وأنشدوا أبياتاً في حقارة ما يهدى إلى العظيم، والاستعذار من ذلك، ودعاء سليمان للنمل بالبركة، والله أعلم بصحة ذلك أو افتعاله. والنمل حيوان قوي الحس شمام جداً، يدخر القوت، ويشق الحبة قطعتين لئلا تنبت، والكزبرة بأربع، لأنها إذا قطعت قطعتين أنبتت، وتأكل في عامها بعض ما تجمع، وتدخر الباقي عدة. وفي الحديث: «النهي عن قتل أربع من الدواب: الهدهد والصرد والنملة والنحلة»، خرجه أبو داود عن ابن عباس. وروي من حديث أبي هريرة: وتبسم سليمان عليه السلام، إما للعجب بما دل عليه قولها: {وهم لا يشعرون}، وهو إدراكها رحمته وشفقته ورحمة عسكره، وإما للسرور بما آتاه الله مما لم يؤت أحداً، وهو إدراكه قول ما همس به، الذي هو مثل في الصغر، ولذلك دعا أن يوزعه الله شكر ما أنعم به عليه. وانتصب ضاحكاً على الحال، أي شارعاً في الضحك ومتجاوزاً حد التبسم إلى الضحك، ولما كان التبسم يكون للاستهزاء وللغضب، كما يقولون، تبسم تبسم الغضبان، وتبسم تبسم المستهزئ، وكان الضحك إنما يكون للسرور والفرح، أتى بقوله: {ضاحكاً}. وقرأ ابن السميفع: ضحكاً، جعله مصدراً، لأن تبسم في معنى ضحك، فانتصابه على المصدريه، أو على أنه مصدر في موضع الحال، كقراءة ضاحكاً.
{وقال رب أوزعني}: أي اجعلني أزع شكر نعمتك وآلفه وأرتبطه، حتى لا ينفلت عني، حتى لا أنفك شاكراً لك. وقال ابن عباس: أوزعني: اجعلني أشكر. وقال ابن زيد: حرضني. وقال أبو عبيدة: أولعني. وقال الزجاج: امنعني عن الكفران. وقيل: ألهمني الشكر، وأدرج ذكر نعمة الله على والديه في أن يشكرهما، كما يشكر نعمة الله على نفسه، لما يجب للوالد على الولد من الدعاء لهما والبر بهما، ولا سيما إذا كان الولد تقياً لله صالحاً، فإن والديه ينتفعان بدعائه وبدعاء المؤمنين لهما بسببه، كقولهم: رحم الله من خلفك، رضي الله عنك وعن والديك.
ولما سأل ربه شيئاً خاصاً، وهو شكر النعمة، سأل شيئاً عاماً، وهو أن يعمل عملاً يرضاه الله تعالى، فاندرج فيه شكر النعمة، فكأنه سأل إيزاع الشكر مرتين، ثم دعا أن يلحق بالصالحين. قال ابن زيد: هم الأنبياء والمؤمنون، وكذا عادة الأنبياء أن يطلبوا جعلهم من الصالحين، كما قال يوسف عليه السلام: {توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} وقال تعالى، عن إبراهيم عليه السلام: {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} قيل: لأن كمال الصلاح أن لا يعصي الله تعالى ولا يهم بمعصية، وهذه درجة عالية.


الظاهر أنه تفقد جميع الطير، وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والاهتمام بالرعايا. قيل: وكان يأتيه من كل صنف واحد، فلم ير الهدهد. وقيل: كانت الطير تظله من الشمس، وكان الهدهد يستر مكانه الأيمن، فمسته الشمس، فنظر إلى مكان الهدهد، فلم يره. وعن عبد الله بن سلام: أن سليمان عليه السلام نزل بمفازة لا ماء فيها، وكان الهدهد يرى ظاهر الأرض وباطنها، وكان يخبر سليمان بذلك، فكانت الجن تخرجه في ساعة تسلخ الأرض كما تسلخ الشاة، فسأل عنه حين حلوا تلك المفازة، لاحتياجهم إلى الماء. وفي قوله {وتفقد الطير} دلالة على تفقد الإمام أحوال رعيته والمحافظة عليهم. وقال عمر رضي الله عنه: لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب لسئل عنها عمر، وفي الكلام محذوف، أي فقد الهدهد حين تفقد الطير.
قال ابن عطية وقوله: {ما لي لا أرى الهدهد}، مقصد الكلام الهدهد، غاب ولكنه أخذ اللازم عن مغيبه، وهو أن لا يراه، فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم، وهذا ضرب من الإيجاز والاستفهام الذي في قوله: {ما لي}، ناب مناب الألف التي تحتلجها أم. انتهى. فظاهر هذا الكلام أن أم متصلة، وأن الاستفهام الذي في قوله: ما لي، ناب مناب ألف الاستفهام، فمعناه عنده: أغاب عني الآن فلم أره حالة التفقد؟ أم كان ممن غاب قبل ولم أشعر بغيبته؟ وقال الزمخشري: أم هي المنقطعة، نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره فقال: {ما لي لا أرى الهدهد}؟ على معنى: أنه لا يراه، وهو حاضر، لساتر ستره أو غير ذلك، ثم لاح له أنه غائب، فأضرب عن ذلك وأخذ يقول: أهو غائب؟ كأنه سأل صحة ما لا ح له، ونحوه قولهم: إنها لإبل أم شاء؟ انتهى. والصحيح أن أم في هذا هي المنقطعة، لأن شرط المتصلة تقدم همزة الاستفهام، فلو تقدمها أداة الاستفهام غير الهمزة، كانت أم منقطعة، وهنا تقدم ما، ففات شرط المتصلة. وقيل: يحتمل أن تكون من المقلوب وتقديره: ما للهدهد لا أراه؟ ولا ضرورة إلى ادعاء القلب. وفي الكشاف، أن سليمان لما تم له بناء بيت المقدس، تجهز للحج، فوافى الحرم وأقام به ما شاء، ثم عزم على المسير إلى اليمن، فخرج من مكة صباحاً يؤم سهيلاً، فوافى صنعاء وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضاً حسناء أعجبته خضرتها، فنزل ليتغدى ويصلي، فلم يجد الماء، وكان الهدهد يأتيه، وكان يرى الماء من تحت الأرض. وذكر أنه كان الجن يسلخون الأرض حتى يظهر الماء.
{لأعذبنه عذاباً شديداً}: أبهم العذاب الشديد، وفي تعيينه أقوال متعارضة، والأجود أن يجعل أمثلة. فعن ابن عباس، ومجاهد، وابن جريج: نتف ريشه.
وقال ابن جريج: ريشه كله. وقال يزيد بن رومان: جناحه. وقال ابن وهب: نصفه ويبقى نصفه. وقيل: يزاد مع نتفه تركه للشمس. وقيل: يحبس في القفص. وقيل: يطلى بالقطران ويشمس. وقيل: ينتف ويلقى للنمل. وقيل: يجمع مع غير جنسه. وقيل: يبعد من خدمة سليمان عليه السلام. وقيل: يفرق بينه وبين إلفه. وقيل: يلزم خدمة امرأته، وكان هذا القول من سليمان غضباً لله، حيث حضرت الصلاة وطلب الماء للوضوء فلم يجده، وأباح الله له ذلك للمصلحة، كما أباح البهائم والطيور للأكل، وكما سخر له الطير، فله أن يؤذّيه إذا لم يأت ما سخر له.
وقرأ الجمهور: أو ليأتيني، بنون مشددة بعدها ياء المتكلم، وابن كثير: بنون مشددة بعدها نون الوقاية بعد الياء؛ وعيسى بن عمر: بنون مشددة مفتوحة بغير ياء. والسلطان المبين: الحجة والعذر، وفيه دليل على الإغلاط على العاصين وعقابهم. وبدأ أولاً بأخف العقابين، وهو التعذيب؛ ثم أتبعه بالأشد، وهو إذهاب المهجة بالذبح، وأقسم على هذين لأنهما من فعله، وأقسم على الإتيان بالسلطان وليس من فعله. لما نظم الثلاثة في الحكم بأو، كأنه قال: ليكونن أحد الثلاثة، والمعنى: إن أتى بالسلطان، لم يكن تعذيب ولا ذبح، وإلا كان أحدهما. ولا يدل قسمه على الإتيان على ادعاء دراية، على أنه يجوز أن يتعقب حلفه بالفعلين وحي من الله بأنه يأتيه بسلطان، فيكون قوله: {أو ليأتيني بسلطان مبين} عن دراية وإيقان.
وقرأ الجمهور: فمكث، بضم الكاف؛ وعاصم، وأبو عمرو في رواية الجعفي، وسهل، وروح: بضمها. وفي قراءة أبيّ: فيمكث، ثم قال: وفي قراءة عبد الله: فيمكث، فقال: وكلاهما في الحقيقة تفسير لا قراءة، لمخالفة ذلك سواد المصحف، وما روي عنهما بالنقل الثابت. والظاهر أن الضمير في فمكث عائد على الهدهد، أي غير زمن بعيد، أي عن قرب. ووصف مكثه بقصر المدة، للدلالة على إسراعه، خوفاً من سليمان، وليعلم كيف كان الطير مسخراً له، ولبيان ما أعطى من المعجزة الدالة على نبوته وعلى قدرة الله. وقيل: وقف مكاناً غير بعيد من سليمان، وكأنه فيما روي، حين نزل سليمان حلق الهدهد، فرأى هدهداً، فانحط عليه ووصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء، وذكر له صاحبه ملك بلقيس وعظم منه، وذهب معه لينظر، فما رجع إلا بعد العصر. وقيل: الضمير في فمكث لسليمان. وقيل: يحتمل أن يكون لسليمان وللهدهد، وفي الكلام حذف، فإن كان غير بعيد زماناً، فالتقدير: فجاء سليمان، فسأله: ما غيبك؟ فقال: أحطت؛ وإن كان مكاناً، فالتقدير: فجاء فوقف مكاناً قريباً من سليمان، فسأله: ما غيبك؟ وكان فيما روي قد علم بما أقسم عليه سليمان، فبادر إلى جوابه بما يسكن غيظه عليه، وهو أن غيبته كانت لأمر عظيم عرض له، فقال: {أحطت بما لم تحط به}، وفي هذا جسارة من لديه علم، لم يكن عند غيره، وتبجحه بذلك، وإبهام حتى تتشوف النفس إلى معرفة ذلك المبهم ما هو.
ومعنى الإحاطة هنا: أنه علم علماً ليس عند نبي الله سليمان.
قال الزمخشري: ألهم الله الهدهد، فكافح سليمان بهذا الكلام، على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاء له في علمه، وتنبيهاً على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علماً بما لم يحط به سليمان، لتتحاقر إليه نفسه ويصغر إليه علمه، ويكون لطفاً له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء، وأعظم بها فتنة، والإحاطة بالشيء علماً أن يعلم من جميع جهاته، لا يخفى منه معلوم، قالوا: وفيه دليل على بطلان قول الرافضة إن الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه أعلم منه. انتهى.
ولما أبهم في قوله: {بما لم تحط}، انتقل إلى ما هو أقل منه إبهاماً، وهو قوله: {وجئتك من سبأ بنبأ يقين}، إذ فيه إخبار بالمكان الذي جاء منه، وأنه له علم بخبر مستيقن له. وقرأ الجمهور: من سبأ، مصروفاً، هذا وفي: {لقد كان لسبأ} وابن كثير، وأبو عمرو: بفتح الهمزة، غير مصروف فيهما، وقنبل من طريق النبال: بإسكانها فيهما. فمن صرفه جعله اسماً للحي أو الموضع أو للأب، كما في حديث فروة بن مسيك وغيره، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه اسم رجل ولد عشرة من الولد، تيامن منهم ستة، وتشاءم أربعة. والستة: حمير، وكندة، والأزد، وأشعر، وخثعم، وبجيلة؛ والأربعة: لخم، وجذام، وعاملة، وغسان» وكان سبأ رجلاً من قحطان اسمه عبد شمس. وقيل: عامر، وسمي سبأ لأنه أول من سبا، ومن منعه الصرف جعله اسماً للقبيلة أو البقعة، وأنشدوا على الصرف:
الواردون وتيم في ذرى سبأ *** قد عض أعناقهم جلد الجواميس
ومن سكن الهمزة، فلتوالي الحركات فيمن منع الصرف، وإجراء للوصل مجرى الوقف. وقال مكي: الإسكان في الوصل بعيد غير مختار ولا قوي. انتهى. وقرأ الأعمش: من سبأ، بكسر الهمزة من غير تنوين، حكاها عنه ابن خالويه وابن عطية، ويبعد توجيهها. وقرأ ابن كثير في رواية: من سبأ، بتنوين الباء على وزن رحى، جعله مقصوراً مصروفاً. وذكر أبو معاذ أنه قرأ من سبأ: بسكون الباء وهمزة مفتوحة غير منونة، بناه على فعلى، فامتنع الصرف للتأنيث اللازم. وروى ابن حبيب، عن اليزيدي: من سبأ، بألف ساكنة، كقولهم: تفرقوا أيدي سبا. وقرأت فرقة: بنبأ، بألف عوض الهمزة، وكأنها قراءة من قرأ: لسبا، بالألف، لتتوازن الكلمتان، كما توازنت في قراءة من قرأهما بالهمز المكسور والتنوين. وقال في التحرير: إن هذا النوع في علم البديع يسمى بالترديد، وفي كتاب التفريع بفنون البديع.
إن الترديد رد أعجاز البيوت على صدورها، أو رد كلمة من النصف الأول إلى النصف الثاني، ويسمى أيضاً التصدير، فمثال الأول قوله:
سريع إلى ابن العم يجبر كسره *** وليس إلى داعي الخنا بسريع
ومثال الثاني قوله:
والليالي إذا نأيتم طوال *** والليالي إذا دنوتم قصار
وذكر أن مثل: {من سبأ بنبأ}، يسمى تجنيس التصريف، قال: وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف، ومنه قوله تعالى: {ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون}، وما ورد في الحديث: «الخيل معقود في نواصيها الخير» وقال الشاعر:
لله ما صنعت بنا *** تلك المعاجر والمحاجر
وقال الزمخشري: وقوله: {من سبأ بنبأ}، من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ، بشرط أن يجيء مطبوعاً، أو بصيغة عالم بجوهر الكلام، يحفظ معه صحة المعنى وسداده. ولقد جاء ههنا زائداً على الصحة، فحسن وبدع لفظاً ومعنى. ألا ترى لو وضع مكان بنبأ بخبر لكان المعنى صحيحاً؟ وهو كما جاء أصح، لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال. انتهى. والزيادة التي أشار إليها هي أن النبأ لا يكون إلا الخبر الذي له شأن، ولفظ الخبر مطلق، ينطلق على ما له شأن وما ليس له شأن.
ولما أبهم الهدهد أولاً، ثم أبهم ثانياً دون الإبهام، صرح بما كان أبهمه فقال: {إني وجدت امرأة تملكهم}. ولا يدل قوله: {تملكهم} على جواز أن تكون المرأة ملكة، لأن ذلك كان من فعل قوم بلقيس، وهم كفار، فلا حجة في ذلك. وفي صحيح البخاري، من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» ونقل عن محمد بن جرير أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح عنه. ونقل عن أبي حنيفة أنها تقضي فيما تشهد فيه، لا على الإطلاق، ولا أن يكتب لها مسطور بأن فلانة مقدمة على الحكم، وإنما ذلك على سبيل التحكم والاستنابة في القضية الواحدة. ومعنى وجدت هنا: أصبت، والضمير في تملكهم عائد على سبأ، إن كان أريد القبيلة، وإن أريد الموضع، فهو على حذف، أي وجئتك من أهل سبأ.
والمرأة بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها ملك اليمن كلها، وقد ولد له أربعون ملكاً، ولم يكن له ولد غيرها، فغلبت على الملك، وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس. واختلف في اسم أبيها اختلافاً كثيراً. قيل: وكانت أمها جنية تسمى ريحانة بنت السكن، تزوجها أبوها، إذ كان من عظمه لم ير أن يتزوج أحداً من ملوك زمانه، فولدت له بلقيس، وقد طولوا في قصصها بما لم يثبت في القرآن، ولا الحديث الصحيح.
وبدأ الهدهد بالإخبار عن ملكها، وأنها {أوتيت من كل شيء}، وهذا على سبيل المبالغة، والمعنى: من كل شيء احتاجت إليه، أو من كل شيء في أرضها. وبين قول الهدهد ذلك، وبين قول سليمان: {وأوتينا من كل شيء} فرق، وذلك أن سليمان عطف على قوله: {علمنا منطق الطير}، وهو معجزة، فيرجع أولاً إلى ما أوتي من النبوة والحكمة وأسباب الدين، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا، وعطف الهدهد على الملك، فلم يرد إلا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها. {ولها عرش عظيم}، قال ابن زيد: هو مجلسها. وقال سفيان: هو كرسيها، وكان مرصعاً بالجواهر، وعليه سبعة أبواب. وذكروا من وصف عرشها أشياء، الله هو العالم بحقيقة ذلك، واستعظام الهدهد عرشها، إما لاستصغار حالها أن يكون لها مثل هذا العرش، وإما لأن سليمان لم يكن له مثله، وإن كان عظيم المملكة في كل شيء، لأنه قد يوجد لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون للملك الذي هو تحت طاعته.
ولما كان سليمان قد آتاه الله من كل شيء، وكان له عرش عظيم، أخبره بهذا النبأ العظيم، حيث كان في الدنيا من يشاركه فيما يقرب من ذلك. ولم يلتفت سليمان لذلك، إذ كان معرضاً عن أمور الدنيا. فانتقل الهدهد إلى الإخبار إلى ما يتعلق بأمور الدين، وما أحسن انتقالات هذه الأخبار بعد تهدد الهدهد وعلمه بذلك، أخبر أولاً باطلاعه على ما لم يطلع عليه سليمان، تحصناً من العقوبة، بزينة العلم الذي حصل له، فتشوف السامع إلى علم ذلك. ثم أخبرنا ثانياً يتعلق ذلك العلم، وهو أنه من سبأ، وأنه أمر متيقن لا شك فيه، فزاد تشوف السامع إلى سماع ذلك النبأ. ثم أخبر ثالثاً عن الملك الذي أوتيته امرأة، وكان سليمان عليه السلام قد سأل الله أن يؤتيه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده. ثم أخبر رابعاً ما ظاهره الإشتراك بينه وبين هذه المرأة التي ليس من شأنها ولا شأن النساء أن تملك فحول الرجال، وهو قوله: {وأوتيت من كل شيء}، وقوله: {ولها عرش عظيم}، وكان سليمان له بساط قد صنع له، وكان عظيماً. ولما لم يتأثر سليمان للإخبار بهذا كله، إذ هو أمر دنياوي، أخبره خامساً بما يهزه لطلب هذه الملكة، ودعائها إلى الإيمان، وإفراده بالعبادة فقال: {وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله}، وقد تقدم القول: إنهم كانوا مجوساً يعبدون الأنوار، وهو قول الحسن. وقيل: كانوا زنادقة.
وهذه الإخبارات من الهدهد كانت على سبيل الاعتذار عن غيبته عن سليمان، وعرف أن مقصد سليمان الدعاء إلى توحيد الله والإيمان به، فكان ذلك عذراً واضحاً أزال عنه العقوبة التي كان سليمان قد توعده بها.
وقام ذلك الإخبار مقام الإيقان بالسلطان المبين، إذ كان في غيبته مصلحة لإعلام سليمان بما كان خافياً عنه، ومآله إلى إيمان الملكة وقومها. وخفي ملك هذه المرأة ومكانها على سليمان، وإن كانت المسافة بينهما قريبة، كما خفي ملك يوسف على يعقوب، وذلك لأمر أراده الله تعالى. قال الزمخشري: ومن نوكي القصاص من يقف على قوله: {ولها عرش عظيم}، وجدتها يريد أمر عظيم، إن وجدتها فر من استعظام الهدهد عرشها، فوقع في عظيمة وهي نسخ كتاب الله. انتهى. وقال أيضاً فإن قلت: من أين للهدهد الهدى إلى معرفة الله ووجوب السجود له، وإنكار السجود للشمس، وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟ قلت: لا يبعد أن يلهمه الله ذلك، كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوانات المعارف اللطيفة الت لا تكاد العقلاء يهتدون لها. ومن أراد استقراء ذلك فعليه بكتاب الحيوان خصوصاً في زمان نبي سخرت له الطيور وعلم منطقها، وجعل ذلك معجزة له. انتهى.
وأسند التزيين إلى الشيطان، إذ كان هو المتسبب في ذلك بأقدار الله تعالى. {فصدهم عن السبيل}، أي الشيطان، أو تزيينه عن السبيل وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة. {فهم لا يهتدون}، أي إلى الحق. وقرأ ابن عباس، وأبو جعفر، والزهري، والسلمي، والحسن، وحميد، والكسائي: ألا، بتخفيف لام الألف، فعلى هذا له أن يقف على: {فهم لا يهتدون}، ويبتدئ على: {ألا يسجدوا}. قال الزمخشري: وإن شاء وقف على ألا يا، ثم ابتدأ اسجدوا، وباقي السبعة: بتشديدها، وعلى هذا يصل قوله: {فهم لا يهتدون} بقوله: {ألا يسجدوا}. وقال الزمخشري: وفي حرف عبد الله، وهي قراءة الأعمش: هلا وهلا، بقلب الهمزتين هاء، وعن عبد الله: هلا يسجدون، بمعنى: ألا تسجدون، على الخطاب. وفي قراءة أبي: ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون، انتهى. وقال بن عطية: وقرأ الأعمش: هلا يسجدون؛ وفي حرف عبد الله: ألا هل تسجدون، بالتاء، وفي قراءة أبي: ألا تسجدون، بالتاء أيضاً؛ فأما قراءة من أثبت النون في يسجدون، وقرأ بالتاء أو الياء، فتخريجها واضح. وأما قراءة باقي السبعة فخرجت على أن قوله: {ألا يسجدوا} في موضع نصب، على أن يكون بدلاً من قوله: {أعمالهم}، أي فزين لهم الشيطان أن لا يسجدوا. وما بين المبدل منه والبدل معترض، أو في موضع جر، على أن يكون بدلاً من السبيل، أي نصدهم عن أن لا يسجدوا. وعلى هذا التخريج تكون لا زائدة، أي فصدهم عن أن يسجدوا لله، ويكون {فهم لا يهتدون} معترضاً بين المبدل منه والبدل، ويكون التقدير: لأن لا يسجدوا. وتتعلق اللام إما بزين، وإما بقصدهم، واللام الداخلة على أن داخلة على مفعول له، أي علة تزيين الشيطان لهم، أو صدهم عن السبيل، هي انتفاء سجودهم لله، أو لخوفه أن يسجدوا لله.
وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون لا مزيدة، ويكون المعنى فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا. انتهى. وأما قراءة ابن عباس ومن وافقه، فخرجت على أن تكون ألا حرف استفتاح، ويا حرف نداء، والمنادى محذوف، واسجدوا فعل أمر، وسقطت ألف يا التي للنداء، وألف الوصل في اسجدوا، إذ رسم المصحف يسجدوا بغير ألفين لما سقطا لفظاً سقطا خطاً. ومجيء مثل هذا التركيب موجود في كلام العرب. قال الشاعر:
ألا يا اسلمي ذات الدمالج والعقد *** وقال:
ألا يا اسقياني قبل غارة سنجال *** وقال:
ألا يا اسلمي يا دارميّ على البلى *** وقال:
ألا يا اسقياني قبل حبل أبي بكر *** وقال:
فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطبة *** فقلت سمعنا فانطقي وأصيبي
وقال:
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر *** وإن كان جباناً عدا آخر الدهر
وسمع بعض العرب يقول:
ألا يا ارحمونا ألا تصدّقوا علينا ***
ووقف الكسائي في هذه القراءة على يا، ثم يبتدئ اسجدوا، وهو وقف اختيار لا اختبار، والذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست يا فيه للنداء، وحذف المنادى، لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه، لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء، وانحذف فاعله لحذفه. ولو حذفنا المنادى، لكان في ذلك حذف جملة النداء، وحذف متعلقه وهو المنادي، فكان ذلك إخلالاً كبيراً. وإذا أبقينا المنادى ولم نحذفه، كان ذلك دليلاً على العامل فيه جملة النداء. وليس حرف النداء حرف جواب، كنعم، ولا، وبلى، وأجل؛ فيجوز حذف الجمل بعدهنّ لدلالة ما سبق من السؤال على الجمل المحذوفة. فـ يا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به ألا التي للتنبيه، وجاز ذلك لاختلاف الحرفين، ولقصد المبالغة في التوكيد، وإذا كان قد وجد التأكيد في اجتماع الحرفين المختلفي اللفظ العاملين في قوله:
فأصبحن لا يسألنني عن بما به ***
والمتفقي اللفظ العاملين في قوله:
ولا للما بهم أبداً دواء ***
وجاز ذلك، وإن عدوه ضرورة أو قليلاً، فاجتماع غير العاملين، وهما مختلفا اللفظ، يكون جائزاً، وليس يا في قوله:
يا لعنة الله والأقوام كلهم ***
حرف نداء عندي، بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ، وليس مما حذف منه المنادى لما ذكرناه. وقال الزمخشري: فإن قلت: أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعاً، أو في واحدة منهما: قلت: هي واجبة فيهما، وإحدى القراءتين أمر بالسجود، والأخرى ذمّ للتارك؛ وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد فغير مرجوع إليه، انتهى. والخبء: مصدر أطلق على المخبوء، وهو المطر والنبات وغيرهما مما خبأه تعالى من غيوبه. وقرأ الجمهور: الخبء، بسكون الباء والهمزة. وقرأ أبيّ، وعيسى: بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة.
وقرأ عكرمة: بألف بدل الهمزة، فلزم فتح ما قبلها، وهي قراءة عبد الله، ومالك بن دينار. ويخرج على لغة من يقول في الوقف: هذا الخبو، ومررت بالخبي، ورأيت الخبا، وأجرى الوصل مجرى الوقف. وأجاز الكوفيون أن تقول في المرأة والكمأة: المرأة والكمأة، فيبدل من الهمزة ألفاً، فتفتح ما قبلها، فعلى قولهم هذا يجوز أن يكون الخبأ منه. قيل: وهي لغة ضعيفة، وإجراء الوصل مجرى الوقف أيضاً نادر قليل، فيعادل التخريجان. ونقل الحركة إلى الباء، وحذف الهمزة، حكاه سيبويه، عن قوم من بني تميم وبني أسد. وقراءة الخبا بالألف، طعن فيها أبو حاتم وقال: لا يجوز في العربية، قال: لأنه إن حذف الهمزة ألقى حركتها على الباء فقال: الخب، وإن حولها قال: الخبي، بسكون الباء وياء بعدها. قال المبرد: كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو، ولم يلحق بهم، إلا أنه إذا خرج من بلدتهم لم يلق أعلم منه. والظاهر أن {في السموات} متعلق بالخبء، أي المخبوء في السموات. وقال الفراء في ومن يتعاقبان بقول العرب: لأستخرجن العلم فيكم، يريد منكم. انتهى. فعلى هذا يتعلق بيخرج، أي من في السموات.
ولما كان الهدهد قد أوتي من معرفة الماء تحت الأرض ما لم يؤت غيره، وألهمه الله تعالى ذلك، كان وصفه ربه تعالى بهذا الوصف الذي هو قوله: {الذي يخرج الخبء}، إذ كل مختص بوصف من علم أو صناعة، يظهر عليه مخايل ذلك الوصف في روائه ومنطقه وشمائله، ولذلك ورد «ما عمل عبد عملاً إلا ألقى الله عليه رداء عمله» وقرأ الحرميان والجمهور: ما يخفون وما يعلنون، بياء الغيبة، والضمير عائد على المرأة وقومها. وقرأ الكسائي وحفص: بتاء الخطاب، فاحتمل أن يكون خطاباً لسليمان عليه السلام والحاضرين معه، إذ يبعد أن تكون محاورة الهدهد لسليمان، وهما ليس معهما أحد. وكما جاز له أن يخاطبه بقوله: {أحطت بما لم تحط به}، جاز أن يخاطبه والحاضرين معه بقوله: {ما تخفون وما تعلنون}، بل خطابه بهذا ليس فيه ظهور شغوف بخلاف ذلك الخطاب. والظاهر أن قوله: {ألا يسجدوا} إلى العظيم من كلام الهدهد. وقيل: من كلام الله تعالى لأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عطية: القراءة بياء الغيبة تعطي أن الأية من كلام الهدهد، وبتاء الخطاب تعطي أنها من خطاب الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال صاحب الغنيان: لما ذكر الهدهد عرش بلقيس ووصفه بالعظم، رد الله عز وجل عليه وبين أن عرشه تعالى هو الموصوف بهذه الصفة على الحقيقة، إذ لا يستحق عرش دونه أن يوصف بالعظمة. وقيل: إنه من تمام كلام الهدهد، كأنه استدرك ورد العظمة من عرش بلقيس إلى عرش الله.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف سوى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظم؟ قلت: بين الوصفين فرق، لأن وصف عرشها بالعظم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك، ووصف عرش الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض. انتهى. وقرأ ابن محيصن وجماعة: العظيم بالرفع، فاحتمل أن تكون صفة للعرش، وقطع على إضمار هو على سبيل المدح، فتستوي قراءته وقراءة الجمهور في المعنى. واحتمل أن تكون صفة للرب، وخص العرش بالذكر، لأنه أعظم المخلوقات، وما عداه في ضمنه.
ولما فرغ الهدهد من كلامه، وأبدى عذره في غيبته، أخر سليمان أمره إلى أن يتبين له صدقه من كذبه فقال: {سننظر أصدقت} في أخبارك أم كذبت. والنظر هنا: التأمل والتصفح، وأصدقت: جملة معلق عنها سننظر، وهي في موضع نصب على إسقاط حرف الجر، لأن نظر، بمعنى التأمل والتفكر، إنما يتعدى بحرف الجر الذي هو في. وعادل بين الجملتين بأم، ولم يكن التركيب أم كذبت، لأن قوله: {أم كنت من الكاذبين} أبلغ في نسبة الكذب إليه، لأن كونه من الكاذبين يدل على أنه معروف بالكذب، سابق له هذا الوصف قبل الإخبار بما أخبر به. وإذا كان قد سبق له الوصف بالكذب، كان متهماً فيما أخبر به، بخلاف من يظن ابتداء كذبه فيما أخبر به. وفي الكلام حذف تقديره: فأمر بكتابة كتاب إليهم، وبذهاب الهدهد رسولاً إليهم بالكتاب، فقال: {اذهب بكتابي هذا}: أي الحاضر المكتوب الآن. {فألقه إليهم ثم تول عنهم}: أي تنح عنهم إلى مكان قريب، بحيث تسمع ما يصدر منهم وما يرجع به بعضهم إلى بعض من القول.
وفي قوله: {اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم} دليل على إرسال الكتب إلى المشركين من الإمام، يبلغهم الدعوة ويدعوهم إلى الإسلام. وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وغيرهما ملوك العرب. وقال وهب: أمره بالتولي حسن أدب ليتنحى حسب ما يتأدّب به الملوك، بمعنى: وكن قريباً بحيث تسمع مراجعاتهم. وقال ابن زيد: أمره بالتولي بمعنى الرجوع إليه، أي ألقه وارجع. قال: وقوله: {فانظر ماذا يرجعون} في معنى التقديم على قوله: {ثم تولى عنهم}. انتهى. وقاله أبو علي، ولا ضرورة تدعو إلى التقديم والتأخير، بل الظاهر أن النظر معتقب التولي عنهم. وقرئ في السبعة: فألقه، بكسر الهاء وياء بعدها، وباختلاس الكسرة وبسكون الهاء. وقرأ مسلم بن جندب: بضم الهاء وواو بعدها، وجمع في قوله: {إليهم} الهدهد قال: {وجدتها وقومها}. وفي الكتاب أيضاً ضمير الجمع في قوله: {أن لا تعلوا عليّ} والكتاب كان فيه الدعاء إلى الإسلام لبلقيس وقومها. ومعنى: {فانظر ماذا يرجعون}: أي تأمل واستحضره في ذهنك. وقيل معناه: فانتظر. ماذا: إن كان معنى فانظر معنى التأمل بالفكر، كان انظر معلقاً، وماذا: إما كلمة استفهام في موضع نصب، وإما أن تكون ما استفهاماً وذا موصول بمعنى الذي. فعلى الأول يكون يرجعون خبراً عن ماذا، وعلى الثاني يكون ذا هو الخبر ويرجعون صلة ذا. وإن كان معنى فانظر: فانتظر، فليس فعل قلب فيعلق، بل يكون ماذا كله موصولاً بمعنى الذي، أي فانتظر الذي يرجعون، والمعنى: فانظر ماذا يرجعون حتى ترد إلى ما يرجعون من القول.

1 | 2 | 3 | 4